فصل: تفسير الآيات (8- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (8- 12):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً}.
مناسبة هذه الآية وما بعدها للآيات التي قبلها، هي أن الآيات السابقة قد رسمت حدودا أقامها اللّه سبحانه وتعالى العلاقة بين الزوجين، وما قد يعرض لهذه العلاقة من عوارض تنتهى إلى الفرقة بينهما، وقد توعّد اللّه سبحانه الذي يتعدّى هذه الحدود من الزوجين.
وهنا في قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها...} الآية عرض لمن يتعدّون حدود اللّه عامة، وما يأخذهم اللّه به من بلاء ونكال في الدنيا، ومن عذاب شديد منكر في الآخرة.
وفى هذا العرض، يرى كلّ من الزوجين أنهما إذا خرجا عن حدود اللّه، فلن يفلتا من سلطانه، ولن ينجوا من حسابه وعقابه، لأن أيّا منهما مهما بلغ من جاهه وسلطانه، فلن يكون أقوى من أية قرية من تلك القرى التي اغترت بقوتها، وبسطة الرزق لها، فعتت عن أمر ربها ورسله، فحاسبها اللّه حسابا شديدا، وعذبها عذابا نكرا.
وكاين: بمعنى {كم} الخبرية التي تفيد التكثير، أي وكم من القرى التي عتت عن أمر ربها ورسله، فحاسبها اللّه حسابا شديدا، وعذبها عذابا نكرا؟
فما أكثر هذه القرى التي وقعت تحت هذا الحكم.
وعتت: من العتو، وهو التطاول بالبغي والعدوان، والتمرد والعصيان، عن استعلاء وتكبر.. والنكر: الشديد الأليم.
قوله تعالى: {فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً}.
أي أن هذه القرية- ومثلها كثير من القرى الظالمة العاتية- قد ذاقت عاقبة أمرها الوبيل، وتجرعت كئوس العذاب، فكانت نهايتها الخسران المبين في الدنيا حيث دمر اللّه عليها وعلى أهلها.
قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً}.
أي، وإذا كان مصير هذه القرى العاتية الظالمة، هو الخراب والدمار في الدنيا، فإن ذلك ليس هو نهاية مطافها، وإنما هناك عذاب الآخرة الذي أعده اللّه لأهلها، وهو عذاب شديد، لا يقاس به ما حلّ بهم من عذاب في الدنيا.
وفى الحديث عن القرية في قوله تعالى: {فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً} ثم الحديث عن أهلها في قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ}.
فى هذا تفرقة بين حالين: فالحال الأولى في الدنيا، حيث تشهد القرية مصارع أهلها، وحيث يشملها من الخراب والدمار ما يجعلها بعضا من هؤلاء القوم الذين وقع بهم عذاب اللّه. ولهذا جاء الحديث عن القرية.
أما الحال الثانية، التي تتحدث فيها الآيات عن القوم، فهى عن حالهم في الآخرة، حيث لا قرى لهم، وحيث يلقون العذاب ولا شيء معهم مما كان لهم في الدنيا من مال، ومتاع، وديار، ولهذا جاء الحديث عن أهل هذه القرية.
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ}.
هو إلفات لأهل العقول وأصحاب البصائر، أن يكون لهم مزدجر، من هذا الذي حلّ بالظالمين، المعتدين، من نقم اللّه، في الدنيا، ومن العذاب الشديد في الآخرة، وأن يتقوا اللّه، ويلتزموا حدوده، حتى لا يحلّ بهم ما حلّ بالظالمين من قبلهم.
وإنما خوطب أولو الألباب، لأنهم هم الذين يمكن أن ينتفعوا بهذا الخطاب، وأن يكون لهم من عقولهم داع يدعوهم إلى الاعتبار، وإلى تلقّى العظة مما وقع لغيرهم، قبل أن ينزل بهم.. فالعاقل من اتعظ بغيره، قبل أن يكون هو عظة لغيره.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا} هو بدل من قوله تعالى: {يا أُولِي الْأَلْبابِ} أو صفة لأولى الألباب، أي فاتقوا اللّه أيها العقلاء المؤمنون.. فإن الذين آمنوا، إنما آمنوا بما معهم من عقول دلتهم على مواقع الهدى، وأرتهم ما في الإيمان من خير فآمنوا.. أما الذين أمسكوا بكفرهم وضلالهم، فإنهم ليسوا من أصحاب العقول.
{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [44: الفرقان].. ومن تمام الإيمان أن يسلك بصاحبه مسالك الهدى، وأن يقيمه على التقوى.. أما الإيمان- مجرد الإيمان- فإنه إن لم يتحول إلى طاقة من القوى الدافعة إلى السلوك الحميد، والعمل الطيب، كان زرعا بلا ثمر.
وقوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} أي قد أنزل اللّه إليكم ما فيه تذكرة لعقولكم، وهو القرآن الكريم، فانظروا فيه، وتدبروا آياته، وستجدون منه الهدى، والنور.
وقوله تعالى: {رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ}.
رسولا، بدل من {ذكرا} في قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} فهذا الذكر الذي أنزله اللّه إليكم، يتمثل في هذا الرسول الذي يتلو عليكم آيات اللّه البينات الكاشفات لطريق الحق، والهدى.
وفى تسليط الفعل {أنزل} على الذكر، الذي هو القرآن، ثم على الرسول الذي يتلو آيات اللّه- في هذا إشارة إلى مقام الرسول الكريم، وأنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- أشبه بآية من آيات اللّه المنزلة من السماء، وأنه منزل إليهم من عند اللّه، كما تتنزل عليهم آياته.. وهذا يعنى أن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- هو في ذاته مصدر هدى، ومطلع رحمة ونور، وأنّ من عجز عن أن يدرك ما في آيات اللّه من حق وخير، يستطيع أن يرى تأويل آيات اللّه في رسول اللّه.. فهو صلوات اللّه وسلامه عليه- كتاب اللّه المنظور، على حين أن القرآن هو كتاب اللّه المسموع.. واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً} [45، 46 الأحزاب].. فهو صلوات اللّه وسلامه عليه- سراج منير مرسل من عند اللّه، كما أن القرآن الكريم {كِتابٌ مُبِينٌ} منزل من عند اللّه.
وقوله تعالى: {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ}.
هو بيان لمطالع الهدى من رسول اللّه، ومن كتاب اللّه الذي بين يديه، وأن هذه المطالع إنما تطلع على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأنهم هم الذين يستضيئون بهذا الهدى، فيخرجون من دائرة الظلام إلى حيث يكون النور.. أما الذين كفروا، فهم في عمى، وفى ضلال، كما يقول سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} [44: فصلت].
قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً}.
هذا وعد من اللّه سبحانه وتعالى لمن آمن باللّه وعمل صالحا، وانتفع بهذا النور الذي أنزله اللّه- بأن يدخله اللّه جنات تجرى من تحتها الأنهار، خالدا فيها، لا يتحول عنها أبدا، حيث يرزق رزقا حسنا من فضل اللّه وإحسانه، في هذه الجنات التي ينعم فيها بما شاء من نعيم لا يحيط به وصف.
وفى إسناد الإيمان والعمل الصالح ودخول الجنة، والرزق الحسن فيها- في إسناد هذه الأفعال إلى ضمير المفرد: {يؤمن باللّه ويعمل صالحا يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار} {قد أحسن اللّه له رزقا} في هذا إشارة إلى أن هذه الأفعال، إنما هي من شأن الإنسان نفسه، وجزاؤها واقع عليه وحده.
فالإيمان، والعمل الصالح، مطلوبان من الإنسان، كإنسان له وجود ذاتى، يناط به التكليف، وتقع عليه آثار أعماله من حسن أو سيء.
ودخول الجنة، والرزق الحسن فيها، هو الجزاء الذي يتلقاه المؤمن جزاء إيمانه وعمله الصالح.
أما إسناد الخلود في الجنة إلى جماعة المؤمنين الذين أدخلهم اللّه الجنة مع هذا المؤمن، فذلك لأنهم جميعا شركاء في هذا الخلود.. فكلهم خالد في هذه الجنات، وإن اختلفت منازلهم فيها بحسب أعمالهم.. فهم في المنازل على أحوال مختلفة، كلّ في منزلته، وإن كانوا في الخلود على سواء.
ثم إن الخلود في الجنة يوحى بثقل هذا الزمن الذي لا ينتهى، وخاصة إذا كان المرء وحده، في عزلة داخل زمن لا حدود له.. فإذا كان هذا الخلود مع مشاركة لأعداد من الناس لا حصر لها، كان ذلك الخلود سائغا، بل ومطلوبا، حيث يأنس الناس بالناس- وفى هذا يقول المعرى:
ولو أنّى حبيت الخلد وحدي ** لما أحببت في الخلد انفرادا

قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}.
هو عرض لقدرة اللّه، وبسطة سلطانه، على هذا الوجود، وأنه سبحانه خلق سبع سموات، وخلق من الأرض سبع أرضين.
وليست المثلية التي بين السموات، والأرض مثليّة في القدر، والحجم، وإنما هي مثلية في التنوع والاختلاف، فكما أن لكل سماء نظاما، مختلفا عن الأخريات، كمّا وكيفا، كذلك لكل إقليم من أقاليم الأرض، أو كل طبقة من طبقاتها، نظام، يختلف عما سواه، قدرا، وكيفا.
ومن النظر في خلق السموات والأرض، يتبين ما للّه سبحانه وتعالى من قدرة، وماله سبحانه، من علم قائم على هذه العوالم، يضبطها، ويدبّر أمرها.
ومن علم هذا، علم أنه- كإنسان مخلوق للّه- لا يخرج عن سلطان اللّه، ولا يغيب عن علم اللّه شيء مما عمل، وأنه محاسب على ما يعمل من خير أو شر، فليتق اللّه، وليعمل صالحا، حتى لا يقع تحت غضب اللّه، وينزل منازل الهلكى، من الضالين المكذبين بآيات اللّه، ورسل اللّه..

.سورة التحريم:

نزولها: مدنية.
عدد آياتها: اثنتا عشرة آية.
عدد كلماتها: مائتان وأربعون كلمة.
عدد حروفها: ألف وستون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
كانت سورة الطلاق قبل هذه السورة- وقد بينت للمؤمنين الحدود التي ينبغى للمؤمنين أن يلزموها في العلاقات التي بين رجالهم ونسائهم، في حال ينتهى الأمر فيها إلى الطلاق، وحلّ عرا الزوجية القائمة بين الرجل والمرأة.
ولما كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- كبشر- علاقات زوجية، كالعلاقات التي بين رجال المؤمنين ونسائهم، وأن هذه العلاقات، قد يعرض لها ما يعرض للعلاقات بين المرء وزوجه، فكان من المناسب أن تجيء سورة التحريم عقب سورة الطلاق لما كان فيها من حديث عن النبيّ خاصة، وعمّا يقع في محيط حياته الزوجية.. وفى هذا التخصيص تكريم للنبى الكريم، ورفع لقدره عند ربّه.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 5):

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
نداء كريم، من رب كريم، إلى نبى كريم، يؤثر على نفسه، حتى ليحرم ما أحل اللّه له، في سبيل مرضاة أزواجه اللائي تظاهرن عليه، وكدن له هذا الكيد الذي توعدهن اللّه عليه، ودعاهن إلى التوبة منه.. ففى هذا الاستفهام دعوة للنبى من ربه أن يرفق بنفسه، وألا يحملها على ما يكره، في سبيل إرضاء غيره.. وهذا من لطف اللّه سبحانه برسوله الكريم، وليس عتابا، ولا لوما، كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين.
ويذكر المفسرون لهذه الآية وما بعدها أسبابا لنزولها.. ومن الأسباب التي يذكرونها، والتي نراها أقرب إلى مفهوم الآيات من غيرها- ما بروى من أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حين أهديت له مارية القبطية، أدخلها ذات مرة حجرة زوجه، حفصة بنت عمر، وكانت حفصة غائبة، فلما جاءت، ووجدت النبي، ومارية في حجرتها، غضبت، وقالت فيما قالت للنبىّ:
إنه ما اتخذ حجرتها مأوى لمارية، دون حجرات غيرها من نسائه، إلا لهوا نها عليه.. فأرضاها النبيّ الكريم، وحلف لها ألا يقرب مارية بعد هذا، وأوصاها ألا تتحدث بما كان إلى أحد من نسائه، حتى لا تثير غيرتهن في أمر قد قضى النبي قضاءه فيه، وهو تحريم مارية.
قالوا، ولكن الذي حدث، هو أن حفصة أذاعت هذا السر، وأفضت به إلى عائشة- رضى اللّه عنها وعن أزواج رسول اللّه جميعا- وكان من هذا حديث متصل يدور بين أزواج النبي تألّم منه النبي، وضاق به صدره فآلى من نسائه جميعا، ألا يقربهن شهرا.
وفى هذا نزلت الآية: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} والآيات التي بعدها.
وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ليس عتابا، كما يبدو.
وإنما هو دعوة من اللّه سبحانه وتعالى- في لطف ورفق- إلى النبي صلوات اللّه وسلامه عليه ألا يحرم ما أحل اللّه له، وألا يشق على نفسه بالأخذ باليمين الذي حلف بها، وقد جعله اللّه سبحانه وتعالى في سعة من أمره، بالتحلّه من هذه اليمين، وذلك بالكفارة عنها.
وقوله تعالى: {تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ} حال من فاعل الفعل {تحرم} وهو النبي صلوات اللّه وسلامه عليه، أي لم تحرم ما أحل اللّه لك، مبتغيا بهذا التحريم مرضاة أزواجك.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ} هو دعوة للنبى الكريم إلى أن يتحلل من يمينه التي حلفها بألا يقرب (مارية).. فاللّه سبحانه يغفر له هذه اليمين بالكفارة عنها، واللّه- سبحانه- غفور، وهو سبحانه {رحيم} وإن أولى الناس برحمة اللّه، هو رسول اللّه، فليرحم الرسول الكريم نفسه، ولا يشقّ عليها بهذا التحريم لما أحل اللّه له، في سبيل مرضاة أزواجه، إذ كانت مرضاتهن عدوانا على حق النبي، في التمتع بما أحل اللّه له.
وقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} هو بيان لبعض آثار مغفرة اللّه ورحمته، وهو ما فرضه سبحانه، وقضى به، من التحلل من الأيمان بالكفارة عنها، إذا كان التحلل من اليمين خيرا من إمضائها.
وفى هذا يقول الرسول الكريم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفّر عن يمينه، ثم ليفعل الذي هو خير».
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ} إشارة إلى لطف اللّه سبحانه، ورعايته لمواليه، فالخلق كلهم عبيد اللّه، واللّه سبحانه سيدهم، ومولاهم.
فى هذا إشارة إلى- مارية- التي كانت مولاة وملك يمين لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولم تكن زوجا له بعد.. وأن مارية، وغيرها من نساء النبي على سواء عند اللّه، لأنهن جميعا من موالى اللّه سبحانه وتعالى.. فلم ينظرن إلى مارية هذه النظرة التي يرينها فيها أبعد من أن تأخذ مكانها معهن في بيت رسول اللّه؟
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي أن اللّه سبحانه- وهو مولاكم- هو العليم بكن وبمن هو أولى عنده بالفضل والإحسان.. {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى} [32: النجم].. وهو سبحانه الحكيم في تقديره وتدبيره، وفى وضع كل مخلوق بموضعه المناسب له.
قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} تعرض هذه الآية الحديث الذي أسرّه النبي إلى بعض أزواجه، وهو- كما أشرنا من قبل- الحديث الذي أسرّ به النبيّ إلى حفصة وطلب إليها ألا تخبر أحدا من نسائه، وأنه التقى بمارية في حجرتها.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أي أخبرت به غيرها، وأعلنته بعد أن كان مستورا، وأظهرته بعد أن كان خافيا.
وفى التعبير عن كشف هذا السرّ بقوله تعالى: {نَبَّأَتْ بِهِ} إشارة إلى ما كان لهذا الحديث عند إظهاره من أثر في بيت النبيّ، وأنه أحدث هزّة، كشأن كل نبأ.. لأن النبأ هو الخبر المثير، الذي يغطّى على غيره من الأخبار.
وقوله تعالى: {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي أعلم اللّه النبيّ بهذا الخبر الذي أذاعته حفصة، على ما كان يجرى بين نسائه من حديث بشأنه.
وقوله تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} هو جواب {لمّا} أي لما أذاعت حفصة هذا السرّ، وأعلم اللّه النبيّ بما حدث: {عرّف بعضه وأعرض عن بعض} أي كشف النبي عن بعض هذا الحديث الذي أذاعته حفصة، ولم يذكر لها كل ما دار بينها وبين من أفضت لها به، وما اتفقتا عليه من كيد فيما بينهما.. وذلك حتى لا يجرح شعورها، ولا يخدش حياءها، فلم يصرح لها بكل ما عرف، بل أخبرها بهذا في إشارة دالة غير فاضحة.. فإن الكريم لا يستقصى.. ومن أكرم من سيد الكرماء عليه الصلاة والسلام؟
وقوله تعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} أي حين علمت حفصة من النبي أنه يعلم كثيرا مما دبرت هي وصاحبتها من كيد، سألت النبي عمن أنبأه بهذا الحديث الذي كان بينها وبين صاحبتها، والذي لم يكن معهما من شهد ما تحدث به، فقال لها النبي صلوات اللّه وسلامه عليه: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} أي الذي أخبرنى بما أسررتما، هو اللّه سبحانه، وهو العليم بكل شيء، الخبير بما في السرائر من خير أو شر.
قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ}.
هو دعوة إلى اللتين دبر تا هذا الكيد النبيّ، سواء أكانتا حفصة وعائشة، أم غيرهما، من أزواجه- صلوات اللّه وسلامه عليه- هو دعوة إليهما من اللّه سبحانه وتعالى، أن يتوبا إليه جل شأنه، مما كان منهما في حق النبيّ، وفيما وقع في نفسه الشريفة من أذى من فعلهما، وإن كانتا لم تقصدا النبيّ بأذى، وإنما كان ذلك عن تنافس في حبه، وحرص على أن تنال كل واحدة من نسائه أكبر قدر من القرب منه، والاستظلال بظل جلال النبوة وعظمتها.
وقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} هو سبب متصل بالشرط: {إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ} أي إن تبتما إلى اللّه، إذ قد صغت قلوبكما، أي مالت عن قصد السبيل.. ويكون الشرط دعوة آمرة بالتقوى، أي توبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما.
فإن تبتما إلى اللّه غفر اللّه لكما.. فجواب الشرط محذوف.
وفى جمع القلوب، مع أن المخاطب مثنى إشارة إلى أن القلبين قد أصبحا قلوبا، لما وقع فيهما من خواطر مختلفة، ذهب كل خاطر بشطر منها.. فكان كل قلب مجموعة من القلوب.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ}.
أي وإن لم تتوبا إلى اللّه، وتمضيا فيما أنتما فيه من كيد للنبىّ ومن تظاهر بينكما وتساند في الكيد له- فإن اللّه هو مولاه الذي يدفع عنه هذا الكيد وجبريل، ظهير له، وناصر، بما ينزل عليه من آيات ربه، وكذلك كل صالح من المؤمنين.. هو ظهير للنبىّ، ومدافع عنه.. ثم الملائكة جميعا، هم عون النبيّ في كل موقف من مواقفه.. فجبريل والصالح من المؤمنين، والملائكة، هم جميعا جند اللّه.. وإذا كان اللّه سبحانه هو مولى لرسول اللّه، فإن هؤلاء الجند هم في نصرة من يتولاه اللّه.
وفى إفراد صالح المؤمنين، إشارة إلى أن الذي يكون في هذا الركب الكريم الذي ينتظم الملائكة، لابد أن يكون على درجة عالية من الإيمان، يكاد يرتفع بها إلى عالم الملائكة.. وهذا نفرر قليل من المؤمنين، يعدّون فردا فردا.
وقوله تعالى: {وَجِبْرِيلُ} مبتدأ، وقوله تعالى: {وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ} معطوف عليه.
وقوله تعالى: {بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ} خبر للمبتدأ.. أي أن هؤلاء جميعا، هم بعد أن يدخل النبيّ في ولاية اللّه سبحانه وتعالى له، يكونون سندا وعونا للنبىّ.
قوله تعالى: {عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً}.
هو تهديد لأزواج النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- إن لم يستقم أمرهن معه، وقد دعاهن اللّه سبحانه إلى التوبة، ثم تهددهن إن هن تظاهرن على النبيّ أن اللّه سبحانه هو مولاه، ولن يتخلى عنه، وقد جعل له من جبريل ومن صالح المؤمنين، ومن الملائكة أعوانا وجندا يسندونه، ويشدون ظهره.
والتهديد هنا بطلاقهن، وخروجهن من بيت النبوة، ثم باختيار اللّه سبحانه وتعالى، النبيّ من النساء، من هنّ أهل للسكن في بيت النبيّ، والاستظلال بظل النبوة.
والأوصاف التي ذكرها اللّه سبحانه وتعالى في الآية النساء اللاتي يختارهن اللّه سبحانه للنبىّ- هي أوصاف، وسمات، قائمة فعلا في أزواج النبيّ، وأن كل واحدة منهن تتميز بصفة ظاهرة من هذه الصفات، هي الغالبة على أحوالها.
فمنهن من غلبت عليها صفة الإسلام، الذي هو سمة للسلام، والموادعة واللطف، ومنهن من غلبت عليها صفة الإيمان، ومنهن من غلبت عليها صفة القنوت وهكذا.
وهذا يعنى أن زوجات النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- قد تخيرهن اللّه سبحانه من أهل الإيمان والكمال، كما يقول سبحانه: {وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ} [26: النور].. أما الاستبدال بخير منهن، فإن هذا إنما يكون في حال هنّ فيها خارج بيت النبوة، وذلك إذا لم يتبن إلى اللّه، ولم يصلحن ما أفسدن من علاقة بينهن وبين النبيّ، بعد هذا الغبار الذي أثاره هذا الحديث الذي ذاع بينهن.. أما وهنّ في بيت النبوة لم يخرجن من هذا الحمى الطهور، فإنهن خير نساء خارج بيت النبوة.
هذا، وفى العطف بالواو بعد ذكر تلك الصفات السبع الأولى من غير عطف- يشير إلى أمرين:
أولهما: قطع هذه الرتابة التي امتدت وطالت، بذكر تلك الصفات على نغم واحد.. {مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ} عابدات سائحات ثيبات.
ذلك أن من إعجاز النظم القرآنى، أنه يوقظ المشاعر والمدارك، بهذه الطّرقة الخفيفة، التي تجيء بعد هذا التوقيع التعالي، المتشابه من النغم، الذي من شأنه أن يبعث شيئا من الخدر والفتور بتلك المتتاليات الواقعة على الأذن.. فإذا جاءت هذه الواو أحدثت تغييرا في مجرى النغم، فيتنبه السامع، ويستيقظ من إغفاءته.
وثانيا: أن هذه الصفات السبع التي سبقت حرف العطف، يمكن أن تكون في مجموعها مما تتصف به المرأة الواحدة، فتجمع بين الإسلام، والإيمان، والقنوت، والتوبة، والتعبد، والسياحة، أي الصوم، والثيوبة.
أو البكورة.. أما أن تكون ثيبا وبكرا فهذا محال.. ولهذا جاء العطف هنا، فكانت الثيوبة مع ما سبقها من صفات، مما يمكن أن تكون عليه حال بعض النساء.. وكانت البكورة مع ما سبقها أن تكون لبعض آخر منهن.
وقد جاء على هذا الأسلوب من النظم قوله تعالى: في سورة التوبة:
{التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (الآية: 112).. فقد جاء العطف بعد سبع صفات، في سرد لم يتوسطه حرف عطف، كما أن المعطوف لم يكن آخر ما يعطف، بل عطفت عليه صفة أخرى.
وهذا يقوى من الرأى للقائل بأن رتابة السرد، هي التي تقضى بهذا العطف عند بلوغ حد معين من المسرودات، لا يتجاوز سبع كلمات.